سورة الأنفال - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


الأنفال: جمع نفل محرّكاً، وهو الغنيمة، ومنه قول عنترة:
إنا إذا احمرّ الوغى نروي القنا *** ونعف عند تقاسم الأنفال
أي الغنائم. وأصل النفل. الزيادة. وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحلّ الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرهم. أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهد من أجر الجهاد. ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين، والابتغاء، ونبت معروف. والنافلة: التطوّع لكونها زائدة على الواجب. والنافلة: ولد الولد، لأنه زيادة على الولد.
وكان سبب نزول الآية اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سيأتي بيانه، فنزع الله ما غنموه من أيديهم، وجعله لله والرسول، فقال: {قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول} أي حكمها مختص بهما، يقسمها بينكم رسول الله عن أمر الله سبحانه، وليس لكم حكم في ذلك.
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. وثم أمرهم بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، ثم قال: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله. وفيه من التهييج والإلهاب مالا يخفى، مع كونهم في تلك الحال على الإيمان، فكأنه قال: إن كنتم مستمرّين على الإيمان بالله، لأن هذه الأمور الثلاثة التي هي تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول، لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق، وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن.
وقد أخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن أبي أمامة، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله بين المسلمين عن بواء. يقول: عن سواء.
وأخرج سعيد ابن منصور، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنه العدوّ وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة فاشتغلنا به، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول} قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع، وإذا أقبل راجعاً وكلّ الناس نفل الثلث.
وكان يكره الأنفال ويقول: ليرد قويّ المسلمين على ضعيفهم.
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي أيوب الأنصاريّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فنصرها الله وفتح عليها، فكان من آتاه بشيء نفله من الخمس، فرجع رجال كانوا يستقدمون ويقتلونه ويأسرون، وتركوا الغنائم خلفهم، فلم ينالوا من الغنائم شيئاً، فقالوا: يا رسول الله ما بال رجال منا يستقدمون ويأسرون، وتخلف رجال لم يصلوا بالقتال فنفلتهم بالغنيمة؟ فسكت رسول الله ونزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ردوا ما أخدتم واقتسموا بالعدل والسوية فإن الله يأمركم بذلك»، فقالوا: قد أنفقنا وأكلنا، فقال: «احتسبوا ذلك».
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن سعد بن أبي وقاص، قال قلت: يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه»، فوضعته، ثم رجعت قلت عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي، إذا رجل يدعوني من ورائي، قلت: قد أنزل الله فيّ شيئاً؟ قال: «كنت سألتني هذا السيد وليس هو لي، وإنه قد وهب لي فهو لك» وأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} وفي لفظ لأحمد أن سعداً قال: لما قتل أخي يوم بدر، وقتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه وكان يسمّى ذا الكتيفة، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحو ما تقدّم، وقد روي هذا الحديث عن سعد من وجوه أخر.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه: أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال}.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: لم ينفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ نزلت عليه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} إلا من الخمس، فإنه نفل يوم خيبر من الخمس.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا»، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم رِدءاً، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم بالسوية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} قال: الأنفال المغانم. كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به. فمن حبس منه إبرة أو سلكاً فهو غلول، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها شيئاً فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال} لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} إلى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ثم أنزل الله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ} [الأنفال: 41] الآية، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى واليتامى، والمساكين، والمهاجرين في سبيل الله، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وللراجل سهم.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} قال: هي الغنائم، ثم نسخها {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ} الآية.
وأخرج مالك وابن أبي شيبة، وأبو عبيد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس وأبو الشيخ، وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال: الفرس من النفل، والسلب من النفل، فأعاد المسألة فقال ابن عباس: هذا مثل ضبيع الذي ضربه عمر؛ وفي لفظ: فقال ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بضبيع العراقي، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه، قال: الأنفال المغانم، أمروا أن يصلحوا ذات بينهم فيها، فيرد القويّ على الضعيف.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، عن عطاء، في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} قال: هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو دابة أو متاع، فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، يصنع به ما شاء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن محمد بن عمرو قال: أرسلنا إلى سعيد بن المسيب نسأله عن الأنفال فقال: تسألوني عن الأنفال، وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق عن سعيد أيضاً قال: ما كانوا ينفلون إلا من الخمس.
وروي عبد الرزاق عنه أنه قال: لا نفل في غنائم المسلمين إلا في خمس الخمس.
وأخرج عبد الرزاق عن أنس أن أميراً من الأمراء أراد أن ينفله قبل أن يخمسه، فأبى أنس أن يقبله حتى يخمسه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن الشعبي، في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} قال: ما أصابت السرايا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والنحاس في ناسخه، عن مجاهد، وعكرمة، قال: كانت الأنفال لله والرسول، حتى نسختها آية الخمس {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ} الآية [الأنفال: 41].
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، في الأدب المفرد، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، في قوله: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} قال: هذا تخريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مكحول، قال: كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم، فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين من قاتل وغنم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء، في قوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} قال: طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.


الوجل الخوف والفزع، والمراد أن حصول الخوف من الله. والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان.
قال جماعة من المفسرين: هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أمر به من قسمة الغنائم، ولا يخفاك أن هذا وإن صح إدراجه تحت معنى الآية، من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه من كون الأنفال لله والرسول، ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال، ولا بوقت دون وقت، ولا بواقعة دون واقعة.
والمراد من تلاوة آياته تلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته، وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون. قيل والمراد بزيادة الإيمان: هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات. وقيل المراد بزيادة الإيمان: زيادة العمل؛ لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه.
{وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيره. والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه في جميع الأمور. والموصول في قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} في محل رفع على أنه وصف للموصول الذي قبله، أو بدل منه، أو بيان له، أو في محل نصب على المدح. وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه. و{من} في {مّمَّا} للتبعيض.
والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بالأوصاف المتقدّمة، وهو مبتدأ وخبره {هُمُ المؤمنون} أي إن هؤلاء هم الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته، وأقصى غاياته. و{حَقّاً} مصدر مؤكد لمضمون جملة {هم المؤمنون} أي حق ذلك حقاً أو صفة مصدر محذوف، أي هم المؤمنون إيماناً حقاً. ثم ذكر ما أعدّ لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال: {لَّهُمْ درجات} أي منازل خير وكرامة، وشرف في الجنة كائنة عند ربهم، وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم، وتعظيم وتفخيم. وجملة {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} خبر ثان ل {أولئك} أو مستأنفة جواباً لسؤال مقدر {وَمَغْفِرَةٌ} معطوف على درجات أي مغفرة لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يكرمهم الله به من واسع فضله، وفائض جوده.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قال: فرقت قلوبهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، أيضاً في الآية قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدّون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فأدّوا فرائضه.
وأخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير، وأبو الشيخ، من طريق شهر بن حوشب، عن أمّ الدرداء قالت: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب، أما تجد قشعريرة؟ قلت بلى، قالت: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.
وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي قالوا: ومن أين لك؟ قال: إذا اقشعرّ جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي.
وأخرج أيضاً عن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهمّ بمعصية، فيقال له اتق الله فييجل قلبه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا} قال: تصديقاً.
وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا} قال: خشية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يقول: لا يرجون غيره.
وأخرجا عنه في قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} قال: برئوا من الكفر.
وأخرج أبو الشيخ عنه {حَقّاً} قال: خالصاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {لَّهُمْ درجات} يعني فضائل ورحمة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {لَّهُمْ درجات} قال: أعمال رفيعة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {لَّهُمْ درجات} قال: أهل الجنة بعضهم فوق بعض. فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه. ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {وَمَغْفِرَةٌ} قال: بترك الذنوب. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال: الأعمال الصالحة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي، قال إذا سمعتم الله يقول: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فهي الجنة.


قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، أي مثل إخراج ربك، والمعنى: امض لأمرك في الغنائم. ونفل من شئت، وإن كرهوا، لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئاً قال: بقي أكثر الناس بغير شيء. فموضع الكاف نصب كما ذكرنا. وبه قال الفراء.
وقال أبو عبيدة: هو قسم، أي والذي أخرجك، فالكاف بمعنى الواو، و{ما} بمعنى الذي.
وقال الأخفش سعيد بن مسعدة المعنى أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك.
وقال عكرمة المعنى: أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك.
وقيل {كما أخرجك} متعلق بقوله: {لَّهُمْ درجات} أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الواجب له، فأنجز وعدك وظفرك بعدوّك وأوفى لك. ذكره النحاس واختاره. وقيل الكاف في {كما} كاف التشبيه على سبيل المجازاة كقول القائل لعبده: كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك، وسألت مدداً فأمددتك وقوّيتك وأزحت علتك، فخذهم الآن فعاقبهم. وقيل: إن الكاف في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، ذكره صاحب الكشاف.
و {بالحق} متعلق بمحذوف، والتقدير: إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا شبهة فيه، وجملة {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} في محل نصب على الحال، أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك، لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين، إما العير أو النفير، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال كما سيأتي بيانه.
وجملة {يجادلونك فِي الحق بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} إما في محل نصب على أنها حال بعد حال، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر. ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين، وفات العير وأمرهم بقتال النفير، ولم يكن معهم كثير أهبة، لذلك شق عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخدنا العدة وأكملنا الأهبة. ومعنى {فِي الحق} أي في القتال بعد ما تبين لهم أنك لا تأمر بالشيء إلا بإذن الله، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين. وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير. و{بعد} ظرف ليجادلونك. و{ما} مصدرية أي يجادلونك بعد ما تبين الحق لهم.
قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} الكاف في محل نصب على الحال من الضمير في {لَكَارِهُونَ} أي: حال كونهم في شدة فزعهم من القتال، يشبهون حال من يساق ليقتل، وهو مشاهد لأسباب قتله، ناظر إليها لا يشك فيها.
قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} الظرف منصوب بفعل مقدّر، أي واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين. وأمرهم بتذكير الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث بقصد المبالغة. والطائفتان: هما العير والنفير. و{إحدى} هو ثاني مفعولي {يعد} و{أَنَّهَا لَكُمْ} بدل منه بدل اشتمال. ومعناه: أنها مسخرة لكم، وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة، لا يطيقون لكم دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم منكم ضراً ولا نفعاً. وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من النعم التي أنعم الله بها عليهم.
قوله: {وَتَوَدُّونَ} معطوف على {يَعِدُكُمُ} من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها. {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة} من الطائفتين، وهي طائفة العير {تَكُونُ لَكُمْ} دون ذات الشوكة، وهي طائفة النفير. قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحدّ. والشوكة: السلاح، والشوكة: النبت الذي له حدّ. ومنه رجل شائك السلاح، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال شاكي السلاح. فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك. والمعنى: وتودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح، وهي طائفة الغير، لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال، إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها.
قوله: {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته} معطوف على {تودّون} وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته، أي ويريد الله غير ما تريدون، وهو أن يحقّ الحقّ بظهاره، لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة، وقتلكم لصناديدهم، وأسر كثير منهم، واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم، وراموا دفعكم بها. والمراد بالكلمات: الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة، ووعدكم منه بالظفر بها. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} الدابر: الآخر، وقطعه عبارة عن الاستئصال. والمعنى: ويستأصلهم جميعاً.
قوله: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} هذه الجملة علة لما يريده الله، أي أراد ذلك، أو يريد ذلك ليظهر الحق، ويرفعه {وَيُبْطِلَ الباطل} ويضعه، أو اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل ذلك ليحق الحق. وقيل متعلق ب {يقطع} وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها، لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين. وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك، والعلة المقتضية له. والمصلحة المترتبة عليه. وإحقاق الحق إظهاره، وإبطال الباطل إعدامه: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] ومفعول {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} محذوف، أي ولو كرهوا أن يحق الحق، ويبطل الباطل. والمجرمون هم المشركون من قريش، أو جميع طوائف الكفار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال: «ما ترون فيها لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا»، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعادّ، ففعلنا، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدّتنا، فسرّ بذلك وحمد الله وقال: «عدّة أصحاب طالوت»، فقال: «ما ترون في قتال القوم، فإنهم قد أخبروا بمخرجكم»، فقلنا: يا رسول الله، لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال قوم موسى لموسى {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فأنزل الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} إلى قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ}. فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين، إما القوم وإما العير، طابت أنفسنا، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك وعدك»، فقال ابن رواحة: يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أن يشير عليه، إن الله أجلّ وأعظم من أن تنشده وعده، فقال: «يا ابن رواحة لأنشدنّ الله وعده، فإن الله لا يخلف الميعاد»، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فانهزموا، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] فقتلنا وأسرنا، فقال عمر: يا رسول الله ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن داعون مؤلفون، فقلنا: يا معشر الأنصار إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ فقال: «ادعوا لي عمر»، فدعي له فقال: «إن الله قد أنزل عليّ» {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية [الأنفال: 67]. وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن مردويه عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جدّه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: «كيف ترون» فقال أبو بكر: يا رسول الله، بلغنا أنهم كذا وكذا، ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟» فقال عمر مثل قول أبي بكر. ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟» فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إيانا تريد، فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط، ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن، لنسيرن معك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} إلى قوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الغنيمة مع أبي سفيان، فأحدث الله إليه القتال.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} قال: كذلك يجادلونك في خروج القتال.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} قال: السدى في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} قال: خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ} قال: لطلب المشركين. {يجادلونك فِي الحق بَعْدَمَا مَا تَبَيَّنَ} أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} قال: هي عير أبي سفيان. ودّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم، وأن القتال صرف عنهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي شأفتهم. ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث، والسير، والتاريخ مستوفاة، فلا نطيل بذكرها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8